شكّل الإنجاز الاستثنائي للمنتخب الأردني في كأس العرب مرآة عاكسة لفجوة إدارية عميقة، فهو لم يكن صدفة بل ثمرة رؤية تكتيكية وإرادة جماعية قادها مدرب محنك. هذه التجربة تطرح سؤالاً جوهرياً: لماذا تنجح فلسفة الإدارة القائمة على الكفاءة في الملعب وتتعثر في دوائر الحكم؟

لم يكن هذا النجاح وليد الصدفة، بل جاء نتيجة رؤية متكاملة وتنفيذ دقيق قاده مدربه المغربي " جمال السلامي "بمهارة استثنائية. لكن هذه التجربة تبرز تناقضاً صارخاً مع واقع الإدارة الحكومية، حيث تتسع الفجوة بين فلسفة إدارة المواهب في الملعب وفلسفة إدارة الدولة.

الإدارة التكتيكية: سيمفونية الكفاءة

قدّم المدرب المغربي " جمال السلامي " نموذجاً عملياً لفن إدارة الرأسمال البشري، مجسداً مبدأ "الاختيار الصحيح". وتمثل ذلك في:

1. الاختيار المدروس: بناء فريق متجانس من الخبرة والشباب يعمل كجسد واحد.

2. التبديلات الذكية: تدخلات جراحية في الأوقات الحاسمة لتعزيز الهجوم أو تدعيم الدفاع.

3. المرونة التكتيكية: تغيير الخطط وفقاً لطبيعة كل تحدٍّ ونقاط قوة الخصم.

4. الإدارة النفسية: تحويل الضغوط إلى حافز والحفاظ على معنويات عالية.

هذا النموذج من "الكفاءة بلا مساومة" مكّن من تشكيل فريق منسجم يقدّم المصلحة العامة على كل اعتبار.

الفريق الحكومي: غياب حكمة "التبديلات" الاستراتيجية

في المقابل، يعاني "الفريق الحكومي" من اختلالات جوهرية تشبه فريقاً بلا مدرب محنك، حيث تغيب فلسفة إدارة الموارد البشرية كمنهج حقيقي لاستراتيجية الدولة. وتظهر مظاهر هذا القصور في:

1. سوء توزيع "اللاعبين": تعيينات في غير مكانها الطبيعي بناءً على اعتبارات غير الكفاءة، مخالفة لمبدأ "الشخص المناسب في المكان المناسب".

2. غياب "الخطة البديلة": ضعف القدرة على التكيف مع المستجدات والاستمرار بسياسات قديمة رغم تغير ظروف "المباراة".

3. إهدار "رأس المال البشري": استمرار نزيف المواهب والكفاءات الوطنية، التي تُشكل الثروة الحقيقية.

4. ضعف "التكتيك الجماعي": غياب التنسيق بين المؤسسات، مما يفقد الفريق الحكومي تماسكه وفعاليته.

الكيمياء الجماعية: الروح الغائبة

أبرز ما يميز الفريق الرياضي الناجح هو "الكيمياء" التي تحول الأفراد إلى كتلة متكاملة، حيث تذوب المصالح الفردية في مصلحة الجماعة. بينما نجد في العديد من مؤسسات الدولة غلبة للمصالح الفردية والجهوية، وغياباً تاماً لثقافة "الفريق الواحد" التي يتجاوز فيها الأداء مجموع الأجزاء.

خارطة طريق من الملعب إلى التنمية

يقدم الإنجاز الرياضي نموذجاً حياً لإمكانية التحول نحو التميز عندما تجتمع الإرادة مع الكفاءة. وهذا يتطلب رؤية استراتيجية تقوم على:

1. تحويل التعليم من نقل المعرفة إلى بناء الموهبة والإبداع.

2. بناء منظومة وطنية لاكتشاف الموهوبين ورعايتهم.

3. تمكين الاقتصاد الإبداعي وجعل الصناعات الثقافية والرياضية ركيزة اقتصادية.

4. إعادة صياغة النموذج الثقافي عبر دعم الأعمال التي تقدم النموذج الإيجابي.

خاتمة: دعوا الكفاءة تقود

كما اقترب فريقنا من الكأس، يمكن لبلدنا أن يقترب من طموحاته التنموية بتطبيق دروس الملعب في إدارة الدولة. العبرة واحدة: "دعوا الكفاءة تقود، امنحوا العمل الجماعي مساحته، وارفعوا شعار 'الفريق أولاً' في كل وزارة ومؤسسة." النتائج في كل الميادين ستكون مشرقة "تماماً كما كانت في ملعب كرة القدم" عندما نتبنى فلسفة "الكفاءة أولاً" كمنهج حياة.

فريقنا أثبت أن المستحيل ممكن بالإدارة الرشيدة والاختيار الكفؤ والروح الجماعية. فليكن إنجازه نبراساً نهتدي به نحو أردن يضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، من الوزير إلى لاعب الكرة.

باحث ومخطط استراتيجي